الثلاثاء، 1 يوليو 2008

السينما الكلاسيكية - الماضي والحاضر والمستقبل


الماضي دائما ما يبهرني .. فقط لكونه ماضي !!

نعم .. فكثيرا حينما أشاهد فيلما من أفلام السينما الكلاسيكية ، مضى على إنتاجه خمسين عاما أو يزيد أجد في خلفية عقلي ــ وأنا مندمج مع أحداث الفيلم ــ جزء يتساءل : " كيف كانت ستمضى حياتي لو أنني عشت في هذا الزمان ؟! .. كيف كنت سأعيش بدون الكمبيوتر والإنترنت والمحمول ؟! .. كيف كان يحيا أولئك الناس بدون أن يشاهدوا الفضائيات ؟! .. بل كيف كنت سأحتمل هذا المنظر الأبيض والأسود حولي في كل مكان أذهب إليه ؟! "

طبعا السؤال الأخير هو أكثر الأسئلة سخرية في الموضوع .. فكل من يشاهد الأفلام الكلاسيكية يتخيل أنه إذا رجع في الماضي 50 عام أو أكثر فسيجد الكرة الأرضية كلها وقد تلونت باللونين الأبيض والأسود وبينهما درجات الرمادي المختلفة .

إلا أنني بعيدا عن هذه التساؤلات أجد في نفسي ميلا وحنينا شديدا إلى الماضي الذي لم أعشه قط، ولدى مشاهدتي لفيلم من أفلام الأربعينات أو الخمسينات أنظر للممثل بنظرة متفحصة ، وأقول في ذهني هذا الرجل لم يعد موجودا على ظهر الأرض ـ على الأرجح ـ ومع ذلك فأنا الآن أشاهده وأسمع صوته وأدرك كيف كانت هيئة .. حركاته وسكناته .. كيف كانت ابتسامته وكيف كانت غضبته .. حتى وإن كان يمثل .. فمهما بلغت براعة الممثل تظل تعبيراته الشخصية ملازمة له ، فكيف الحال إذا كان الفيلم من الثلاثينات أو العشرينات .. وماذا لو احتوى على مجاميع ـ كومبارس ؟!

لن أنسى أبدا مشهد الثلاثين ألف كومبارس في فيلم الخيال العلمي الرائع Metropolis ـ إنتاج 1927 ـ يتدافعون هنا وهناك ، ويملئون المشهد بالحيوية والإثارة .. يا الله ! .. كل هؤلاء لم يعد لهم وجود ! .. حقا إن السينما آلة مدهشة فحين ترى مشهد كهذا أو مشهد حقيقي لأحد الميادين العامة ــ في أي دولة كانت لا يهم ــ مضى على تصويره 60 أو 70 عاما يأخذك الذهول .. وتتساءل :

أحقا عاش هؤلاء الناس ؟! أحقا كانوا يروحون ويجيئون مثلنا ؟!

هذا الرجل هناك .. لا لا هذا ـ صاحب المعطف والقبعة .. أين كان ذاهب لحظتها وفيم كان يفكر ؟! ترى من أين اشترى قبعته هذه وكم كان سعرها ؟! هل هو سعيد ؟! هل يحب زمانه هذا أم يرى الماضي أفضل ؟! أم يتطلع إلى المستقبل ؟!

وأحفادنا الذين سيملئون الأرض يوما .. حينما سيشاهدون أفلامنا الآن .. هل ستعجبهم ؟! أم سيرونها سخيفة عديمة الإمكانيات ؟!

لي صديق لا يحب مشاهدة أي فيلم مضى على إنتاجه عشر سنوات تصوروا ؟!

هل سيأتي اليوم الذي يقول فيه قائل عن سلاسل مبهرة كـ Star Wars و Lord of The Rings وغيرها .. ما هذا الإنتاج التافه ؟! .. ما تلك الإمكانيات الفقيرة ؟! .. أين تذهب هذه الأفلام بجوار أفلام اليوم ؟!

لا أستبعد هذا ، بل أنا متأكد من حدوثه .. ليس رجما بالغيب .. بل قراءة للواقع الفعلي .

ولكن تبقى الأفلام الكلاسيكية مبهرة بأسلوبها الخاص ــ أسلوب المشاعر ــ فالتكنولوجيا قد أضفت على الأفلام الحديثة نوعا من الآلية المصاحبة لها ، فصار كثيرا من الممثلين يبدون كشخصيات الجرافيك ، بل إن المخرجين يفكرون باستبدالهم بشخصيات جرافيك فعلا .. ربما استطاعوا بإمكانياتهم في الإخراج أن يجعلوهم أكثر إنسانية !!

وفيلم Simon ـ إنتاج 2002 ـ في رأيي ليس مجرد ضحكة سخرية .. برغم من تأكيدهم أنه يبدو كذلك !

وإذا كنت أتحدث عن السينما الكلاسيكية فلابد أن يأخذني الحديث عن أروع خمس أفلام كلاسيكية شاهدتها في حياتي ، وكلها من إنتاج عقد الثلاثينات من القرن العشرين .. ولكن لماذا عقد الثلاثينات بالذات ؟

الإجابة بسيطة .. فالثلاثينات تمثل بداية النضج السينمائي في السينما العالمية ، وبداية إنتاج الأفلام الطويلة الناطقة .. والمأخوذة عن روايات عالمية رائعة ، قرأها الآلاف في شتى أنحاء المعمورة ، حيث كانت هواية القراءة هي الهواية الرئيسية المسيطرة في القرني الثامن والتاسع عشر الميلاديين ، ومنذ اختراع آلة الطباعة ونشاط حركة التأليف والترجمة وكل المثقفين يقرءون تلك الروايات ، وبهذا صار مضمونا نجاح الأفلام المأخوذة عنها حتى قبل البدء في إنتاجها .. نظرا لتلهف المشاهدين إلى مشاهدة ما قرءوه مجسدا أمامهم .. ولكن هذا لم يكن ليتأتى إلا مع وجود مخرجين عباقرة غاية في التمكن من أدواتهم الفنية ، وممثلين ذوي ثقافة عالية وقدرات فذة في الأداء التمثيلي ، ليقدموا لنا أفلاما تظل تشاهد وتستحسن حتى يومنا هذا .

وأول هذه الأفلام الخمسة التي ذكرتها هو فيلم City Lights أضواء المدينة ـ إنتاج 1931 ـ لعبقري الكوميديا والأستاذ الأول لهذا الفن الرائع والذي تعلم منه كافة نجوم الكوميديا في شتى البلدان .. (شارلي تشابلن) .

قدم لنا (تشابلن) في هذا الفيلم رواية رائعة امتزجت فيها الكوميديا بالرومانسية مزيجا فريدا، وأيضا لم يخل الفيلم في بعض مشاهده من لحظات حزينة ، وإن كانت تزيد من روعة الجو الرومانسي المسيطر على معظم مشاهد الفيلم .. فبالبطل هنا (تشابلن) يقوم بدور الصعلوك المعتاد الذي يحاول بشتى السبل مساعدة حبيبته الفتاة الحسناء على استرداد بصرها المفقود .. فيضحى براحته وحريته لينجح في النهاية ويتمكن من مساعدتها ، فقط لتكتشف هي أن من أحبها وساعدها وظنته مليونيرا كبيرا .. ليس سوى صعلوكا متشردا خارج من السجن لا يملك قوت يومه .

وقد قدم (إسماعيل يس) هذه القصة في السينما المصرية في فيلم لا أذكر اسمه حاليا ولا يهم ذكر اسمه .. فهو مقارنه بالفيلم الأصلي شأنه شأن كل الأفلام العربية ــ وهي كثيرة جدا ــ المسروقة من أفلام عالمية .. لا تحتوي على ذرة من جمال أو تعلق في الذهن لحظة واحدة !

أما الفيلم الثاني فهو أيضا للعبقري (تشابلن)، فيلم Modern Times الأزمنة الحديثة ـ إنتاج 1936ـ وهو فيلم نادرا ما تشاهد مثله بما يحتويه من كوميديا راقية تنتقد حال المجتمعات المدنية الصناعية في عقد الثلاثينات ، حيث توحش الرأسماليين ولم يعد يهمهم سوى الربح فقط حتى وإن أدى الأمر إلى تشغيل المصانع 24 ساعة دون توقف ، ولتذهب راحة عمالهم وآدميتهم إلى الجحيم.
وهو ما نراه قد عاد في عصرنا هذا بصورة أشد ، مما ينذر بحالة من الكساد الاقتصادي العالمي تجتاح الدول الرأسمالية كما حدث في تلك الفترة .. لذا فمشاهدة هذا الفيلم مشاهدة متأنية توضح لنا أنه ليس مجرد فيلم كوميدي عن عامل بسيط فقد عمله وتشرد في الشوارع ، وإنما هو صيحة تحذيرية يطلقها لنا (تشابلن) ليؤكد بهذا مدى بعد نظره على الصعيديين الفني والاقتصادي
.

ومع المغامرة والحب والفروسية يأتي فيلمنا الثالث .. فنرجع ثمانية قرون في الماضي إلى إنجلترا ، لنعيش مع (روبين هود) اللص النبيل مئة دقيقة من الإثارة والمغامرات والضحك في فيلم The Adventures Of Robin Hood مغامرات روبين هود ـ إنتاج 1938ـ وشخصية (روبين هود) كما يعلم عشاق الروايات الكلاسيكية من الشخصيات ذات الطابع الفريد في الأدب العالمي .. الأمير النبيل الذي يتخلى عن مكانته وإقطاعه ليحارب الفساد ويساعد بني قومه من الساكسون ، في مواجهة ظلم واستبداد الأمير (جون) أخو الملك الشهير في الحملات الصليبية على الشرق المسلم (ريتشارد قلب الأسد) .

ولقد أدي (إرول فلين) دور (روبين هود) ببراعة منقطعة النظير ، وكذلك فعلت الجميلة (أوليفيا دي هافيلاند) في دور الأميرة (ماريان) .. وحينما تشاهد الفيلم الآن وبعد مرور 70 عاما على إنتاجه لا تشعر بأي نوع من الملل أو الضيق ، خاصة وقد أضافت الألوان المستحدثة على الفيلم فيما بعد جمال إضافي وكأنك تشاهد لوحات فنية متحركة لفناني عصر النهضة .

أما فيلمنا الرابع فهو أشهر من نار على علم، فيلم Gone With The Wind ذهب مع الريح ـ إنتاج 1939ـ وهو أيضا مأخوذ عن رواية عالمية شهيرة للأديبة (مارجريت ميتشيل) .. وهي بالمناسبة روايتها الوحيدة ولكنها كانت فيها الكفاية لإنتاج مثل هذا الفيلم الفريد والرائع لعملاق السينما العالمية في ذاك الوقت (كلارك جيبل) تشاركه البطولة الممثلة (فيفيان لي) ، وأيضا كانت معهم في دور صديقة البطلة (أوليفيا دي هافيلاند) .. وقصة الفيلم نفسها جذابة وممتعة إلى درجة تجعل المشاهد لا يشعر بأربع ساعات متواصلة هي مدة عرض الفيلم ، وخلفية الأحداث هي أهم فترة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في رأيي ، وهي فترة الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في عهد (إبراهام لينكولن) ، والتي صنعت القطب الأوحد للعالم الآن بقوتها وغرورها المعروفين .

ومسك الختام هو فيلم من أحب وأقرب الأفلام إلى قلبي منذ الطفولة .. شاهدته عشرات المرات على مدار عمري ولم أمل منه قط .. وهو فيلم The Wizard Of OZ ساحر أوز ـ وهو من إنتاج 1939 أيضا ـ ولا أجد ما أقوله عن هذا الفيلم الممتع جدا سوى أنه الفانتازيا الخالصة ..

رقة وعذوبة (جودي جارلاند) في دور (دورثي) الصغيرة، بالرغم من أنها كانت أكبر من المطلوب إلا أنها جعلت كل من يشاهد الفيلم صغيرا كان أم كبيرا يعشق (دورثي) ويعشق بكارتها وبراءتها وما تمثله من أحلام طفولية جميلة ، وطبيعة ريفية بسيطة ، لم تشوه ملامحها مخالب المدينة ، ولم تنهش عذوبتها أنياب الواقع الدنيء .

والأبطال الثلاثة برفقتها .. خيال المآته (الفزّاعة) ، والرجل الصفيح ، والأسد الجبان .. كل منهم أدى دوره ممثل غاية في البراعة ، وكذلك الساحرتين الخيرة والشريرة .. وأيضا لا ننسى ساحر أوز نفسه الذي يتضح في النهاية أنه ليس بساحر مخيف كما ظهر في اللقاء الأول له مع (دورثي) ، وإنما هو رجل حكيم وعالم بسيط يمتع بروح مرحة جعلته يبتكر فكرة الساحر هذه لمساعدة الناس .

إن جمال وروعة السينما الكلاسيكية ينبعان من كونها سينما ما قبل الفضائيات .. ما قبل ثورة الاتصالات والمعلومات ..

سينما طازجة أشبه بالفواكه والخضروات الطازجة .. زاهية اللون .. حلوة الطعم .. زكية الرائحة ..

أما سينما اليوم ـ في معظم ما تقدمه من أفلام ـ فهي أشبه بالمعلبات والوجبات السريعة ..

تفتقد إلى اللون والطعم والرائحة ..

سينما تيك أوي !


هناك تعليقان (2):

La RoSe يقول...

السلام عليكم

المقال جميل جداً

لم أشاهد من تلك الأفلام سوى إثنين ،"ذهب مع الريح" قمت بتحميله من فترة قريبة على الرغم من طوله وإرغامي على مشاهدته على مرتين إلا أنه فعلاً يستحق..

والآخر "الساحر أوز" أذكر أنني شاهدته منذ زمن بعيد.. أيام الطفولة،ولم أشاهدة ثانيةً إلا أنه فعلاً من النوع الذي يعلق بالذاكرة ،ذكّرتني به ،لذلك سأحاول تحميله ومشاهدته ثانيةً.

شكراً لك،

بإنتظار المزيد من المقالات بإذن الله..

غير معرف يقول...

مرحبا
مقال متميز ، و الأفلام التى تحدثت عنها سواء " الساحر أوز " أو " ذهب مع الريح " هم قمة فى لائحة مفضلاتى .
بالفعل ، الأفلام الكلاسيكية تشعر بها بالكثير من الإهتمام بكل شئ ، الآن تستشعر أن مادة الأفلام أصبحت كالوجبات السريعة إلا فيما ندر .
أحييك ..